بعد أداء صلاة عيد الفطر في (المشهد) كما يسميه أهل المدينة المنورة، وبعد جمع حصيلة البخشيش من الأهل والأقارب نتجه وأقراني عندما كنا صغارا إلى (المناخة) تلك الساحة الكبيرة التي تضم كل مبهجات العيد للأولاد . وكان أول ما نستقبله هو رائحة الكبدة الطازجة، رائحة ننتظرها من عيد لعيد. ولا بأس من الانتظار رغم أن صانعيها موجودون طوال العام إلا أنني وكثيرا لم نكن نشتهيها ونأكلها إلا أيام العيد. فطعمها مختلف، فيه شيء مميز، لم نكن نفطر بالبيت أو نتعشى لأن الكبدة هي الطبق الرئيس لتلك الأيام. تنتهي الأيام سريعا وننتظر العيد الجديد. العام كان طويلا. فتلك الأيام ليست كمثل هذه الأيام, والعيد لا يأتي بسرعة لكنني كنت انتظر ولا آكل الكبدة إلا أيام العيد بعد أن تجتذبني رائحتها من عشرات الأمتار. راحت تلك الأيام، ومعها تغيرت ملامح المناخة وكل ماحولها من حارات، باب الشامي والعنبرية، السحيمي والساحة، باب المجيدي وبضاعه، سقيفة الرصاص وحوش منصور، التاجوري والعوالي، سويقه وشارع العيينة المرصوف بالحجر، باب السلام وحارة الأغوات. كثيرة هي الحارات ومسكينة تلك المدينة القديمة. فكلما أشم رائحة الكبدة أتذكر المناخة وحارات المدينة وأزقتها. كنت أتمنى لو جنب جزء منها ليراه الناس وليعرف ابناؤنا بعضا من تراثها، ويرى الوافدون من الحجيج كيف كانت وكيف أصبحت المدينة المنورة. فهم الآن يشاهدون طرقات سريعة ومباني إسمنتية عصرية حطت مكان الحجرية، تلك المباني التي ميزت طيبة برواشينها وأعمدتها الحجرية التي يبلغ طول بعضها أكثر من عشرة أمتار. المباني ذات الأربعة والخمسة طوابق كانت يوما ما ملء البصر، حطت بدلا منها معلبات إسمنتية أتت على كل حاراتها وأزقتها القديمة دون استثناء. فلم تعد ترى ماكان، فبعد أن اعتادت عيناي شوارعها وأزقتها وبعد أن ألفت رئتاي رائحة كبدتها الطازجة. يلفت انتباهي الآن كثرة المباني التي تحيط بالحرم النبوي من كل جوانبه، بعضها جميل وبعضها يفتقد اللمسة المعمارية فلم يراعي فيها تاريخ المدينة ولاعمارتها القديمة. حتى رواشين المعلبات تسيء إلى رواشين مباني زمان. وما أراه الآن لاشيء فيه يتحدث عن ماضي وتراث طيبتنا غير الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والقبة الخضراء التي تزين مسجده.